التربية الإيجابية

إفهم دماغ طفلك تتجنب الكثير من المتاعب

علوم الأعصاب الدماغية تطورت كثيرا منذ منتصف القرن الماضي. و هي اليوم تجيبك عزيزي المربي على الكثير من التساؤلات التي قد تكون تشغلك و توضح لك تصرفات مختلفة من تصرفات طفلك.

إن كنت لا تفهم بعض صور العناد و العنف و المبالغة في ردود أفعال طفلك, صراخه اللامفهوم و منطقه اللامنطقي فإني حاولت أن أسلط الضوء في هذا المقال على بعض الحقائق التي أبانت عليها هذه العلوم و التي سوف توضح لك الصورة أكثر.

و تبقى هذه السطور غيض من فيض في هذا المجال الواسع.

من ماذا يتكون الدماغ ؟

في البداية و كتمهيد من أجل فهم ما سيأتي تعال لحظة لنلقي نظرة سريعة على دماغنا.
ينقسم دماغ الإنسان إلى ثلاث أقسام :

الدماغ  البدائي : و هو المسؤول عن وظائف الجسم الأولية كالتنفس و ضربات القلب و النوم و غيرها, و هو أيضا الجزء المسؤول عند الإحساس بالخطر عن سلوكيات غريزية مثل الفرار أو الهجوم.

الدماغ العاطفي : هو المسؤول وراء كل ما نحس به من مشاعر و أحاسيس, و هذه نقطة مهمة احتفظ بها لفيما بعد.
و هو أيضا يلعب دور المنظم لردات الفعل الغريزية التي ينتجها الدماغ البدائي, و يتدخل أيضا في وظائف متعددة كالسمع و الذاكرة .

الدماغ العلوي : مقسم إلى فص جبهي, فص جداري, فص زمني و فص مؤخرة الرأس.
و هذا القسم العلوي من الدماغ مسؤول عن الوظائف العقلية مثل اللغة و قدرات التعلم و غيرها.
و جزء الفص الجبهي منه مسؤول عن التفكر الإبداع و الخيال و التعاطف و اتخاذ القرارات و المنطق و ذاكرة العمل.
و الذي يهمنا أكثر هنا هو أن هذا الفص الجبهي هو المسؤول عن التحكم في ردات فعلنا أمام مختلف المشاعر التي تعترينا و التي منبعها الدماغ العاطفي, فيسمح لنا بالتفكير أولا و كبح أنفسنا و أخذ خطوة للوراء.

تطور دماغ الطفل  :

خلال سنوات الطفل الأولى يكون دماغ الطفل العلوي مازال في طور التكون و بالتالي فهو لا يمارس أي سلطة على الجزأين البدائي و العاطفي.

جزء كبير من هذا الدماغ يتكون خلال الخمس سنوات الأولى من عمره, لكن نضجه يأخذ وقتا أكبر يصل حتى ما بعد المراهقة, بل إن بعض المناطق بالفص الجبهي لا يكتمل نضجها إلا في العقد الثالث من حياة الإنسان.

المناطق الدماغية المسؤولة عن الحياة العاطفية و الاجتماعية تستمر في التطور خلال مرحلة الطفولة كلها, و كيفية سيرورة هذا التطور تكون محددة لمستوى ذكاء الطفل العاطفي و الاجتماعي.

و تجدر الإشارة أيضا إلى أن الطفل يولد بدماغ يحتوي على تشابكات عصبية كثيفة جدا, و كل التجارب و العلاقات العاطفية التي يعيشها تساهم إما في تعزيز هذه التشابكات أو هدم بعضها.

خلال الطفولة و المراهقة يفقد الدماغ حوالي نصف تشابكاته العصبية التي لم يتم استعمالها و لا يحتفظ إلا بتلك المستعملة. و هذا الأمر يفسر كيف أن أي حدث يحدث من المحتمل أن يعطل عمل بعض التشابكات مما سيكون له تأثير كبير على حياة الطفل الحالية و المستقبلية.

لماذا لا يتحكم الطفل في مشاعره ؟

بربط معلومات الفقرة الأولى و الثانية أظن أنك الآن قد فهمت كل شيء.

الطفل حين تعتريه واحدة من المشاعر الحادة و المفاجئة مثل الفرح الشديد و الخوف و الغضب و غيرها, فإنه لا يمتلك القدرة على ضبطها و التحكم فيها و لا في السلوكيات الغريزية المترتبة عنها, بسبب دماغه العلوي و فصه الجبهي الغير ناضج بعد.

إنه لا يستطيع التفكير حينها في التناوب أو حسن التعبير أو المشاركة أو الملكية أو غيرها من الأمور المنطقية, يحدث كل شيء بسرعة حتى و إن كنت معه بنفس الغرفة فإنك لن تستطيع إيقاف أحداث الضرب و الدفع و غيرها من تلك الناتجة عن ردود أفعاله البدائية.

كثيرا ما يتم تفسير بعض تصرفات الطفل مثل الصراخ و السقوط بالأرض و بكاء غير مفهوم و رمي الأشياء على أنها دلال, لكنها ليست كذلك.

الصراخ على الطفل و تأنيبه و عقابه في مثل هذه المواقف لا ينفع إلا في تصاعد الأمور و لا يتعلم الطفل منه شيئا. بل هو يحتاج آنذاك إلى والد يحافظ على هدوئه, يكلمه من مستوى نظره و يلفت إنتباهه لشيء آخر, أو ربما يعالج سلوكياته في أوقات أخرى منفصلة عبر سرد قصة أو رسم ما.

هذه الفترة من حياة الطفل لا تدوم إن حرص الوالدين على تهدئة الطفل بطرق سليمة.

تهدئة مشاعر الطفل تساعده في نضج دماغه :

حينما يوفر الوالدان للطفل بيئة آمنة و مساعدة ليستعيد هدوءه و اطمئنانه، فإنهم هكذا سوف يساعدون دماغه الجبهي على التطور و تكوين اتصالات عصبية مع الدماغ البدائي و العاطفي التي سوف تسمح له مع الوقت و تدريجيا أن يتعامل مع مشاعره. و تهدئة الطفل هنا لا تعني أبدا الرضوخ لرغباته.

و لا ننسى هنا أيضا دور الخلايا العصبية المرآتية التي تجعل الطفل يتعلم و يتبنى السلوكيات التي يراها كنموذج. لذلك فإنه لا مفر, أنت ستكون القدوة, إن تعاملت في سنوات الطفل الأولى مع طفلك بالإحتواء و التفهم اللذان يحتاجهما, حتى يتشرب ذلك من المحيط الذي يعيش فيه.

و تدريجيا تتقوى التواصلات بين مختلف مناطق الدماغ، و يصبح هذا الطفل قادرا على التعامل مع المشاعر الحادة التي يعيشها, و واعيا بنفسه.

لكن إن عاش الطفل في بيئة لا تساعده على مواجهة مشاعره و على تهدئة نفسه, فهناك احتمال أن تبقى التواصلات الدماغية التي يحتاجها ضعيفة أو منعدمة, و لن يطور القدرة على السيطرة على نفسه, فتكون سلوكياته عنيفة أكثر و يستمر على عادات الصراخ و العض و الضرب و غيرها ليصبح بعد ذلك بالغا لا يستطيع فهم مشاعره و التحكم فيها, يدخل بسهولة في نوبات من الغضب و العنف أو حتى الإكتئاب, مفتقرا للشفقة و التعاطف.

الإستجابة لبكاء الرضيع :

الطفل الرضيع متعلق بشكل تام بالشخص البالغ, أكله و شربه و نومه و لباسه و حمايته و تدفئته و غيرها, فهو ضعيف و هذا الضعف يجعل نوبات المشاعر التي يمر بها حادة جدا.

في الأربعة أشهر الأولى يعيش حالة قصوى من الحذر و عند أدنى حدث غير متوقع أو غير مألوف فإنه يدخل في نوبة من الخوف و القلق و الغضب, استجابة للجهة الدماغية البدائية المسؤولة عن السلوكيات الغريزية للمحافظة على الحياة التي تكون جد نشيطةفي هذه المرحلة.

لذا فإن تهدئته و توفير إحساس الأمان و الإطمئنان له جد مهم, و إلا فإنه يصعب عليه جدا الخروج بمفرده من هذه الحالة .

جو الضغط و التوتر و تأثيره على تطور دماغ الطفل

في أوقات التوتر العالي يفرز الجسم هرمون الكورتيزول الذي يؤثر على الدماغ خاصة إذا بقي فيه لمدة ساعات بكميات جيدة.

و الكورتيزول له أثار متعددة على دماغ الطفل بالخصوص خلال سنوات حياته الأولى, منها نقصان نمو الخلايا العصبية و هدم بعضها في مناطق مهمة مثل القشرة الجبهية..

لذا فإن الحرمان العاطفي للطفل و تعريضه  لسوء المعاملة بصفة مترددة و متكررة يجعل توازنه العاطفي مختلا لبقية حياته. و قد تتطور الحالة لتظهر عنده بعض أنواع الاختلالات السلوكية المهمة.

و العنف التربوي أيضا سواء في المدرسة أو المنزل يدخل ضمن الأمور المهمة التي تولد توترا عاليا عند الطفل و نتائجها غير محمودة إذا كانت تتكرر في حياة الطفل باستمرار.

و عدا الحالات المعقدة التي تضع الطفل تحت مستوى عال من التوتر, فإن هناك التوتر اليومي العادي أيضا الذي رغم بساطته لكن و نظرا لتكراره الدائم فإن تأثيره يصبح جديرا بالذكر.

ابتداءا من توتر الصباح حيث الوالدان غاضبان بسبب تأخرهم عن العمل, و عند وجبات الأكل حيث الطفل لا يرغب بالأكل و هما محبطان لذلك, وصولا إلى وقت النوم العصيب, و غير ذلك من المواقف اليومية المربكة…

ما هي النتيجة ؟

التوتر البسيط اليومي مع التكرار و الإستمرار لا يبقى بسيطا, فيستنزف طاقة الكبار و الصغار و يؤثر سلبا على علاقتهم ببعضهم البعض. الطفل في موقف الضعف يحس بالتسلط و الخوف و الغضب و القلق المستمرين, فيتبنى تصرفات معينة تجعل الوالد يظن أن إبنه غير عادي.

 تأثير الشاشات و الأفلام

لقد أصبحت الشاشات تحتل حيزا مهما في حياة معظم الأطفال, الشيء الذي يجب الإنتباه له جدا و تقليله إلى أقل قدر ممكن.

على الآباء أن يعوا أن صور العنف التي يراها الطفل تسجل في ذاكرته و يعيدها و يقوم بنفس الأفعال, و هذا يزيد من قابليته للتعنيف و العدوانية, خاصة عندما يتعرض لهذه المشاهد دون الثلاث سنوات.

و عدا ذلك فالتعرض للتلفزة و غيرها من الشاشات يؤثر بشكل سلبي و عميق على تطور المهارات الفكرية  بما في ذلك اللغة و التعبير و التركيز و الإنتباه و الخيال و الإبداع و حتى جودة النوم .

تأثير اللعب على الدماغ

حسب الباحثين المختصين في الموصلات العصبية للدماغ, فإن الموصلات التي تجعل الأطفال يتسلون و يتقاتلون و يزعجون و يقومون بكل ما يقومون به من لعب لها دور رئيسي في نمو و تطور الخلايا العصبية للدماغ و القشرة الدماغية التي تتحكم في المشاعر.

فالوقت الذي يمضيه الطفل في اللعب هو ليس تسلية فقط و إنما فرصة لنضج عدة مناطق في الدماغ و تعزيز بعض التشابكات العصبونية.

ما هي التربية الإيجابية

التربية الإيجابية لها في الحقيقة دور مهم في تمكين الطفل من كل الفرص التي تتيح لدماغه المناخ المناسب و الطرق الجيدة للتطور و النمو بشكل سليم و متوازن.

التربية الإيجابية هي ليست تربية متساهلة كما يعتقد الكثيرون, لكنها تضع حدودا و قوانين واضحة ليتبعها الطفل بكل احترام لكينونته.

التربية الإيجابية تتمركز حول مبادئ مهمة منها توفير محيط عاطفي مناسب و متفهم و بيئة آمنة, إعطاء الطفل الاهتمام المطلوب ليحس بأهميته و فاعليته داخل المجتمع, و حيزا هاما من الإستقلالية التي تكون له مصدرا للثقة في قدراته.

الخلاصة :

تربية الطفل رحلة ليست بالهينة و لا بالعشوائية، إنها مهمة من أشرف المهام و أصعبها أيضا لذلك فلا بد للمربي في أيامنا هذه أن يفهم كينونة الطفل و ما يتعلق به لتتيسر له الطريق.
و هذا في الحقيقة سيستعصي إذا كان هذا الوالد هو في الأصل مجهد مضغوط متعب, فلا تنسى عزيزي المربي أن تحرص على صحتك النفسية و راحتك و تأخذ بعض الوقت لك حتى تؤدي مهمتك بأفضل وجه.

*المقال مكتوب على ضوء كتاب لطفولة سعيدة لكاترين جيجين

اترك تعليقا