يولد الطفل دون أي مهارة تذكر تمكنه من العيش و التعايش غير مص الحليب, لا حركة لا كلام و لا لغة… ثم بعد عدة شهور تجده إنطلق إنطلاقة هائلة مقارنة بالحالة التي جاء بها إلى العالم. و ما إن يصل الثلاث سنوات حتى تجده أصبح متحدثا بارعا في لغته الأم يتكلم تلقائيا دون التفكير في الكلمات اللازمة. ما الذي حدث يا ترى ؟
تخبرنا ماريا مونتيسوري أن الطفل بفضل تمتعه بخاصية العقل الماص, فإن له قدرة عالية على الإستجابة لكل المنبهات الحسية المتواجدة في بيئته بدون بذل أدنى مجهود.
ماذا تعني بالضبط بالعقل الماص؟ إبق معي هذا ما سأشرحه في المقال.
العقل الماص هو شكل من أشكال الذكاء الذي يصعب على الكبار فهمه لأنه ليس من البديهي أن نتخيل كيف يمكن للإنسان أن يحفظ و يتعلم و يتذكر دون وجود ذاكرة.
لماذا يتمتع الإنسان بخاصية العقل الماص في بداية حياته ؟
منذ الولادة وحتى سن الست سنوات، لا يستطيع الطفل أن يفكر تفكيرا منطقيا، ولهذا السبب لا يستطيع الحفظ، لا يمكنه التفكير مثلا كيف يصرف الفعل “أكل” في جملة حسب مع من يتكلم، يمتص دماغه شكل اللغة ككل ويخلق آليات لاستخدامها بعد ذلك دون أن يكون مستوعبا و واعيا لما يحدث و دون بذل أدنى مجهود.
أما نحن كأشخاص بالغين، عندما نريد تعلم لغة جديدة، فإن الأمر يتطلب منا الكثير من الجهد والطاقة.
هذه القوة تقدم للإنسان خدمة عظيمة، فبفضلها يتكون الإنسان من ثقافته وبيئته و محيطه، يأخذ طريقة الأكل والحركة والتعبير عن نفسه و كيفية التصرف، بل و أيضا جزء كبير من القيم، و المبادئ و المعتقدات و الدين…
ما هي كيفية عمل العقل الماص لدى الطفل و طبيعته ؟
إن عقل الطفل يشبه الإسفنجة، لا يحتفظ بالمعلومات في مكان ما، ماريا مونتيسوري تفسر ذلك بأن كيمياء الدماغ هي التي تشتغل، هو يجسد ما يتعلمه، يخلق آليات وفقًا لما يختبره ليعيش به لاحقا.
تُشَبَّه الطريقة التي يمتص بها عقل الطفل بالتقاط صورة بقمرة، فهو يلتقط كل التفاصيل التي تحيط به وما يحدث حوله، كل شيء يدخل دماغه في هذه الفترة يصبح جزءا من شخصيته.
بفضل هذا الدور الذي تلعبه كيمياء الدماغ، تخترق المعرفة العقل لتشكل اللُّحمة الدماغية، وهذا الوصف الذي قدمته فلسفة مونتيسوري منذ عدة سنوات يذكرنا باكتشافات علم الأعصاب الحديثة التي كشفت عن الخلايا العصبية المرآة و العصبونات الدماغية التي يتم بناؤها وتدميرها في الدماغ حسب ما يمر به الطفل.
هذا العقل الماص الذي كان منذ الولادة في مرحلة اللاوعي، يصبح إبتداءا من عمر الثلاث سنوات في مرحلة الوعي، وبفضل عمل الطفل بواسطة يديه يبدأ في نقل ما تم امتصاصه إلى تفكيره الواعي. كل هذا عبر التعلم بواسطة جميع الحواس و فقط من خلال استمراره في العيش واللعب.
خلال فترة ما قبل ست سنوات يعيش الطفل في عالم مختلف عن عالمنا، إنها مرحلة غامضة في حياة الطفل يقضيها في بناء سمات شخصيته من خلال كل ما يفعله. يعيش ويستوعب كل ما يحيط به، كل أعماله و تجاربه، لنكتشف لاحقًا أننا أصبحنا أمام إنسان مختلف بات يعرف الآن كيف ينصت إلينا.
“دراسة نفسية الطفل في السنوات الأولى من حياته تكشف لنا الكثير من المعجزات التي لا يمكننا الاقتراب منها دون التأثر العميق بها” ماريا مونتيسوري- العقل الماص
كيف يمكننا إعطاء حظوظ أفضل لتطور الطفل و لعقله الماص ؟
في نظام التعليم و التربية التقليديين، سواء في المنزل أو في أي مكان آخر، بدلاً من مساعدة الطفل في طريقه، نضع الكثير من العقبات و العراقيل أمام إستخدامه الأمثل لملكاته و إمكانياته و وصوله لأفضل ما يمكنه الوصول له في بناء ذاته.
لكن بما أننا نفهم الآن أن الطفل يحتاج إلى أن يعيش تجارب متنوعة و حقيقية و ملموسة ليتمكن من الغَرف من بيئة و محيط سليمين و التكون من خلالها ، وأنه يحتاج إلى الاستكشاف بيديه وحواسه ليتمكن من هضم العالم من حوله ، فإننا أصبحنا قادرين على تقديم مساعدة أفضل تتيح له امتدادًا واستخدامًا مثاليًا لعقله الماص من خلال تزويده ببيئة ملائمة وغنية ومنحه الفرص للاستكشاف بنفسه.
لا تقفلوا عنه الأدراج كلما هم إليها, أشركوه معكم في كل أنشطة الحياة اليومية داخل المنزل و خارجه, إمنحوه الثقة و الفرصة لحمل الزجاج و الفخار, سيكسر و يتعلم الكياسة فيما بعد.
إلفتوا إنتباهه لكل العلوم من حوله, الأرقام الحيوانات الأدوات الحرف, كونوا له مثالا في العلاقات و ردود الأفعال, إغمسوه في الطبيعة لأكثر وقت ممكن, لا تجعلوه يقضي أيامه جالسا على كرسي و تطلبوا منه عدم الحراك, هو يعيش و يفكر بالحركة و اللمس و الحواس. إفتحوا عينيه على الجغرافيا و الرياضيات الملموسة و عرضوه لتجارب البيع و الشراء, أعطوه مساحة شاسعة من الإستقلالية, و علموه الجمال و الذوق.
خلاصة :
إجعل تجارب طفلك الحياتية منذ الولادة و حتى الست سنواث متعددة و متنوعة, هذا سيجعل عقله متفتحا و ثريا بل و أيضا ستزيد من حظوظ استيعابه للمعلومات و العلوم في مستقبله بما أنه نشأ نشأته الأولى على ذلك و منه.