العقاب عادة قديمة, ألِفتَها لدرجة أنك أيضا لا تستطيع أن تتصور التربية بدونها. حتى المناهج التربوية نفسها و لمدة طويلة اختلفت فيما بينها حول إن كان العقاب طريقة ناجعة أم لا.
في البداية دعنا نتفق على ما هو هدفك من وراء طريقة تربيتك لأبنائك, هل هو الحصول على إنسان يُطبق أوامرك المطلقة و يبتعد عن نواهيك و يتصرف حسب أصول المجتمع ؟ أو طفلا منطلقا يبحث لكي يفهم أولا, و لا يرجع إليك في كل أمر من أموره ؟
إن كنت ضمن الخانة الأولى فامض في طريقك لديك ما تحتاج إليه. أما إن كان هدفك الأخير هو الأمر الثاني فإني أحب أن أحدثك بخصوص هذه الممارسة،لذا حاولت أن أجمع لك في هذا الموضوع عدة أوجه سلبية لطريقة العقاب في التربية و أن أبين أنه عوض تطوير الطفل، فهذا الأمر بالعكس يشل قدراته و خصائصه الفطرية.و لا أخص بالذكر العقاب الجسدي, بل كل الأنواع حتى تلك المسماة بالعقوبات اللطيفة.
ما هي العلاقة مع الكذب ؟
لا نستطيع أن نختلف في أنه ليس هناك طفل يحب أن يُعاقَب، سواء جسديا أو لفظيا أو بأي صفة أخرى، لذلك فهو، و حين يصبح مدركا لردات فعل الآباء، سوف يبحث عن طريقة لتجنب ذلك، و أول (و أسهل) ما يلجأ إليه هو الكذب، يبدأ هذا في أمور بسيطة ، و دون وعي أو قصد منه أو فهم لمعنى الكذب بالمفهوم الأخلاقي الكبير، ثم يتطور الأمر مع الوقت والمواقف و الحالات حتى تصبح عادة و مهارة.
ماذا عن التواصل مع الكبار؟
و هذه النقطة السابقة تحيلنا لأمر آخر موازي لها و هو التوقف عن التحدث مع الوالدين أو الشخص المسؤول عن الطفل، عما يفكر فيه أو أن يحكي عما يفعله خلال يومه، لأنه تَكوَّن لديه اعتقاد أن أي تصرف منه قد يكون مُغضبا لوالديه، حتى و إن كان في الحقيقة شيئا عاديا أو جيدا، ثم فهذا لا يساعد الآباء في أن يعلموا أن الطفل قام بأمر يجب حتما الإطلاع عليه، فهو يتعود على إخفاء كل الأمور الجيدة منها و السيئة.
حين يصبح الأمر انتقاميا
عند العقاب، خاصة و أن الطفل يؤمن دائما أنه لا يستحقه، , فقد تتولد لديه أيضا رغبة في الانتقام (على قدر مفهومه)، وهذا أمر بديهي و إنساني، يوجد عند الكبار أيضا، فكلما أحسسنا بأذية أو حرمان من شخص ما، فإن العقل اللاواعي يفكر أوتوماتيكيا في الانتقام و رد الاعتبار للنفس. هكذا و بطريقة ما, الطفل أيضا كلما أحس بالظلم عند التعرض للعقاب, حتى و إن كان هذا بالنسبة لك يُعلِّمه بأن فِعلَه شنيع و لا يجب تكراره, فهو لا يفهم هذا بالضرورة, فيبدأ في البحث عن طريقة ما لرفع الظلم عن نفسه و معاقبتنا بدوره, و يتمثل هذا أحيانا في الإصرار على الفعل ,أو ربما القيام بأشياء أخرى لإزعاجنا, فنعاود مرة ثانية معاقبته, ثم يسعى مرة أخرى للانتقام منا بفعل آخر و هكذا ندخل في دائرة غير متناهية يسعى فيها كل طرف لإشباع احتياجه. فيعزز هذا لديه اللجوء للانتقام السريع بدل الحِلم و التحاور.
القوي يعاقب الضعيف
نحن الكبار, لدينا الإمكانية لأن نعاقب الأطفال لأننا أقوى و أكبر جسديا, نمتلك القدرة الكافية لفعل ما نشاء بأجسادهم, أو أن نجبرهم على البقاء في مكان ما أو حرمانهم من شيء ما, و لدينا أيضا القدرة الفكرية التي تجعلنا نعبر عن غضبنا فنسلط سلسلة من الانتقادات و الصفات السلبية و الشتائم أيضا لإخراج الإحساس السلبي الذي ولده التصرف الغير مرغوب فيه للطفل, في المقابل و لأن الطفل أضعف منا فإنه ليست لديه القدرة على المقاومة.
هذه الحقيقة, لا تمر على الطفل مرور الكرام, فهو يتعلم شيئا من كل شيء, فيستفيد من هاته المواقف أن الأقوى سواء جسديا أو سلطويا, يستطيع أن يفعل ما يريد بالطرف الأضعف و لديه الحق في إيذاء الآخرين, و هكذا مع أول فرصة متاحة يمارس نفس الشيء فيضرب بدوره و يحرم و يعاقب كل من كان أصغر و أضعف منه, ثم يرافقه هذا الاعتقاد و هذه الممارسة في كل مراحله. و أساسا من هنا قد تكون لدينا نحن أيضا الاعتقاد المسلم به بأنه أمر عادي و طبيعي ضرب الأبناء ومعاقبتهم عند أدنى إزعاج أو خطأ.
أين مكان الشجاعة في الوسط المجتمعي
من ناحية أخرى يتولد خوف و خضوع من كل من لديه سلطة أو قوة أعلى, حتى و إن كانت المواقف غير منصفة, فقد يخاف من التعبير عن رأيه, أو الدفاع عن نفسه, أو مثلا أن يواجه الطرف الآخر أنه على خطأ, و هذا لا يدخل في باب الاحترام و إنما الخوف.
قلت مرة لطفل في الثامنة من عمره, أنه لا يجب الخلط بين الحروف المعجمة و الحروف غير المعجمة عند قراءة القرآن الكريم, فعند تلاوته يجب أن ننتبه حتى لا نسقط في التغيير. أجابني أن المدرس في المدرسة هكذا يقرأ و يعلمهم, أجبته أن بإمكانه أن يقول له على انفراد أنه قد تعلم أنه علينا الانتباه لهذا الأمر دائما خاصة عندما يتعلق الأمر بقراءة القرآن. استنكر الأمر جدا و أجابني أنه لا يمكنه البتة أن يقول هذا للمعلم, و أنه من المستحيل أن يتجرأ و يتكلم معه في الأمر, حاولت أن أقنعه أن الأمر ليس فيه أية قلة احترام فقط يجب أن تكون طريقة الكلام مؤدبة, و أن المعلم سيتقبل الأمر بل و بالعكس سوف ينوه به يهنئه على اجتهاده, لكن الأمر بالنسبة له كان محسوما, هو لن يجرؤ على أن يكسر حاجز السلطة و أن يتجاوز صاحب القوة و يعبر له عن رأيه, فهو لم يعد يفرق بين ما يمكنه قوله و ما لا يمكنه.
المبادرة
من الأمور التي قد يؤدي إليها أيضا تبني أسلوب العقاب , أن الطفل يتخلى عن خاصية المبادرة التي تعد مهارة فطرية عنده, فهو يولد معدا لأن يبادر في اكتشاف و تعلم كل شيء, لكننا بكثرة النهي و القمع و التهديد و العقاب نكبحها عنده, فيصبح متراجعا و سلبيا و غير مبادر سواء في التصرفات العادية الصغيرة, أو في تقديم أفكاره, فيكون عنده دائرة ارتياح روتينية لا تتعدى ما يمليه و يرسمه أولياء الأمر.
العدوانية
ثم فإن العلاقة القائمة على قوة مقابل ضعف, حين تولد إحساسا بالعجز لدى الطفل نظرا لقلة حيلته أمام السلطة الممارسة عليه قد تجعل منه كردة فعل شخصا عدوانيا و عنيفا تجاه كل محيطه كوسيلة للتنفيس عن توثره , خاصة إذا كانت أساليب العقاب شديدة و مصحوبة بتهديدات.
الأمان في كنف الأسرة و الثقة في الأبوين
هناك أيضا شيء من عدم الإحساس بالأمان في العلاقة الأبوية, لأنه و في كثير من الأحيان نعاقب الطفل من أجل أشياء لا يتوقع أنها سوف تغضبنا, أو أفعال لم يسبق أن تحدثنا عنها, و شرحنا أنها غير مقبولة, فيفاجأ في كل مرة بعقاب من أجل تصرف يراه عاديا و ليس فيه أي خطأ.
نأخذ على سبيل المثال ولدا أخرج إفرازاته الأنفية بأصبعه ووضعها في فمه و أعجبه الأمر, بالنسبة لنا هو أمر مقزز و غير مقبول تماما و محبط جدا, و لهذا فإن ردة الفعل قد تكون و بسرعة عبارة عن ضرب أو صراخ مفزع أو شتائم مفاجئة, لكن الولد لم يكن يعلم أنه أمر غير لائق, وفَعله بتلقائية لاعتقاده أنه شيء عادي, بل و مسلي أيضا, إنه فقط اكتشاف لمذاق مادة عادية تخرج من أنفه
و هكذا مع تكرار الموقف عند الكثير من التصرفات اليومية يدخل الطفل في حيرة تولد عنده نوعا من الإحساس بعدم الأمان لأنه قد يعاقب في أي لحظة من أجل أي تصرف عادي في نظره.
كبح لإشباع احتياجات النمو و التطور
هناك مشكلة متشابكة, و هي أن الاحتياج الفطري عند الصغار للتعامل مع محيطهم من أجل تطوير مهاراتهم الحسية و الحركية و المعرفية هو مصدر إزعاج كبير لراحة و هدوء الكبار , الصغار يحتاجون أن يلمسوا, أن يمسكوا بأيديهم, أن يرموا , أن يصعدوا فوق الأشياء أن يصدروا الأصوات المزعجة بجميع الأدوات المتاحة حتى يتعرفوا على الفرق بين العالية منها و الحادة و الرقيقة…
و يصعب علينا نحن بنظرتنا المكتسبة خلال سنوات أن نلاحظ هذا و نقف عنده, فنحاول جاهدين أن نجبرهم على أن يبقوا هادئين , أن لا يصدروا أي إزعاج, و أن لا يلمسوا الكثير من الأشياء المثيرة لفضولهم. فنمنعهم من كل الأغراض و نلجأ للقوة و التخويف لإجبارهم على طاعتنا, و للأسف هذا يفوت عليهم الكثير من الفرص لإشباع حاجاتهم الحسية التي تتحول فيما بعد لإبداع و سعة فكرية.
متى نستطيع تطوير الميزان و التحليل الشخصي ؟
فيما بعد حين نعود الطفل على تنفيذ الأوامر فقط بأسلوب الترهيب يصبح من الصعب عليه أن يطور أسلوب التحليل و التفكير و إبداء الآراء بكل أريحية و التعمق في الأمور الحياتية.
فإذا عدنا لمثال الولد الذي يضع في فمه ما يخرج من أنفه ( و أتأسف على الإصرار على هذا المثال غير المبهج) فالأمر يختلف إذا ما تم تعنيف الطفل بشدة من أجل دفعه للتوقف عن هذا ( دعوة للانقياد), و إذا ما قمنا بالشرح له بطريقة جدية تنم عن عدم رضانا , أن الأمر غير صحي و أن السائل يحتوي على مكروبات دفعها الأنف خارج الجسم و لا يجب أن نقوم بإعادة إدخالها عن طريق الفم لأنه و إن كان الأمر يبدو مسليا و مغريا فإنه قد يسبب مشاكل صحية فيما بعد (دعوة للتفكير في الضرر و لماذا يجب الابتعاد عنه).
فالمثال الأول يجعل الطفل فاقدا للميزان و التحليل الشخصي نظرا لتبعيته الدائمة و السلبية لأوامر الكبار و الثاني يجعله يطور من مهارة التحليل الدائم للأمور و يحثه دائما على استخدام عقله للتفكر.
غياب التركيز على القيم
و هذا ينطبق أيضا على موضوع تعلم القيم, فبأسلوب الإجبار و العقاب, نعلم الخوف بدل الاحترام, و العيب بدل الحرام, و نعزز الكذب , و السلبية بدل الإقدام و الشجاعة, و الخجل بدل الحياء و اللائحة تطول…
كيف تُهزَم الثقة في النفس (و لو مؤقتا) ؟
حين يصبح الطفل يحس أنه عامة لا يحسن التصرف , و أنه يُخجِل والديه و يُحبِط توقعاتهم بتصرفاته, خاصة حين يتعود على تلقي نعوت و انتقادات دائمة لذاته, فهذا يفقده الثقة في نفسه و يعطيه إحساسا أنه غير مقبول, غير ذكي, و لا ينفع في شيء.
الانطوائية و علاقتها بالتعرض للعقاب
و من الأطفال من يلجأ للانطوائية حين يتعرض للتعنيف و العقاب الدائم, فيتحول لطفل ’ظاهريا’ هادئ, يفضل أن يبقى ساكنا, قليل الكلام, منفردا في نشاطاته و لعبه عن باقي الأسرة, لا يتحدث كثيرا عما يفكر فيه, يخترع لنفسه عالمه الخيالي الخاص به حتى يضمن الابتعاد عن أي تعنيف خارجي, و هذه الانطوائية و عدم التواصل مع باقي الأفراد قد يكبر معه ليصبح عائقا اجتماعيا فيما بعد.
التربية على حفظ الكرامة
و هناك نقطة يتوجب علي أن اذكرها على رأس القائمة, لكنني تركتها للآخر حتى تبقى عالقة في ذهنك, و هي أن التعنيف و الضرب, هو مساس بكرامة الطفل, هذه القيمة التي فطرنا الله عليها. فلنعلم أننا إن حطمنا كرامة الطفل باعتدائنا على جسده و قيمته الإنسانية, فإننا في طريقنا لبناء شخصية قد ترضى لنفسها بتخطي جميع القيم للوصول إلى مصلحة ما, و إن كنت تقول كالبقية “لقد ربونا بهذه الطريقة و لم يحدث لنا شيء” فما عليك إلا أن تتمعن قليلا في التصرفات المتناقضة للعديد من الناس , و التي أصبحت شبه عادية لتلاحظ أن كرامتنا أصبحت تسمح لنا بعدم الاكتراث لكثير من القيم من أجل تحقيق مصالح دنيا.
“تعد عملية حجز الطفل على الكرسي أو بغرفته أو تقييد حركته نوعا من الإهانة و مسا بالكرامة”
دكتور مصطفى أبو السعد ـ رخصة القيادة التربوية
ما العلاقة مع التحرش الجنسي ؟
بعد التحدث في هذه النقاط المختلفة, أريد أن أتكلم عن نقطة حساسة و خطيرة, و جد متفشية للأسف, و هي التحرش الجنسي بالأطفال, ففي غالب الأحيان إلا نادرا, الطفل يخضع للمعتدي ثم لا يتكلم في الأمر, و هذا لأنه غالبا اعتاد في أسلوب تربيته على الخجل من الأشخاص الكبار, و عدم الجرأة على مواجهتهم, حتى في حالة الأذية, و حين يتعرض للتهديد لكي لا يخبر أحدا فإنه ينصاع بسهولة, ثم فوق ذلك فهو لا يستطيع أن يتكلم في الأمر لأنه يعتقد أنه مذنب و أنه قد يعاقب من أجل ذلك,و لأنه مرة أخرى لم يعد يفهم ما هي التصرفات المقبولة لدى والديه و غير المقبولة, و لأن العلاقة هي علاقة سلطة و ليست علاقة حوار يسودها الأمان
خلاصة
من الأكيد أن ردات الفعل هاته تختلف من طفل لآخر, حسب شخصيته و طبعه, و حتى بين الإخوة, لكن الأكيد هو أن كل طفل يأخذ نصيبه من التأثير السلبي على تكوينه.
لا بد و أنك تتساءل كيف يمكن إذا التعامل, فالاستغناء عن توجيه الأطفال بالاستعانة بالعقوبات ليس بالأمر الهين, إذ لا يمكن أن ندعم يمضون كما يشاؤون بدون أية ضوابط. معك حق و أنا أؤكد ذلك, لكنني ارتأيت أن أوضح لك أولا الجوانب السلبية حتى تضع أمام عينيك أولا أنه ليس أسلوبا محبذا, و هكذا تكون قد قطعت شوطا مهما في الطريق.
و في موضوع لاحق سوف أتكلم عن الأساليب التي تمكننا من أن نبني علاقة سليمة, مع تعريف الطفل بالقواعد و الحدود اللازمة, و إعطاءه حيزا للنمو بتوازن.