عندما سمعت أول مرة بالمونتيسوري, ضننت أنها طريقة ما لفرش و تنظيم غرف الأطفال, حيث تعرفت على هذا الإسم عندما كنت أبحث عن سرير من أجل طفلي. و إذا بي بعد حين أكتشف أنها عالم بيداغوجي نفسي غني كثيرا.
و أعلم أنه مازال هناك اليوم العديد من الناس الذين يسمعون كثيرا بهذا الإسم و لكن يعلمون القليل عن كنهه. فهل أنت أيضا لديك صورة مشوشة و مشتتة عن الموضوع ؟
أو ربما تثيرك الأنشطة و الأفكار الكثيرة المسماة بالمونتيسورية في المواقع لكنك لا تفهم الكثير عما وراءها و لا في أي وقت يمكنك اقتراحها على طفلك و تحس أيضا أنك تقلدها تقليدا أعمى .
لذا أردت أن أتكلم هنا عن أهم الأسس التي ستساعدك على تكوين صورة أوضح عن بيداغوجية مونتيسوري التعليمية النفسية, و تجعلك تتعرف على النقط الأهم التي تميزها. خاصة أن هناك الكثير من الأفكار المغلوطة الرائجة بخصوص هذه الطريقة.
ما هو أصل بيداغوجية مونتيسوري ؟
رغم أن فقرة التاريخ تكون غالبا هي الأثقل على الأذهان, لكن لا بد لي أن أبدأ بالكلام عن مصدر هذه المنهجية. و مع ذلك فإني أعلم أنها لن تكون وصلة مملة.
و هذه الرحلة الزمنية مهمة لأنك ستعرف من خلالها أن هذا الطريقة لم تكن مجرد نتيجة لبحث أو دراسة لموضوع أو حالة, بل هي خلاصة و عصارة عمر كامل لصاحبته التي كرست حياتها من أجل الطفل.
ترجع هاته البيداغوجية لمؤسستها الطبيبة الإيطالية ماريا مونتيسوري, التي عاشت بين أواخر القرن 18 و النصف الأول من القرن 19. خصصت هذه المرأة حياتها كاملة لدراسة و ملاحظة سلوك الطفل النفسي و التعلمي,و وضَعَت منهجا كاملا يحترم كل مرحلة عمرية.
من الأفكار الشائعة, أنها كطبيبة اختصت في علم النفس, كانت تهتم بالأطفال ذوي الصعوبات و الإعاقات الذهنية, لذا فإن طريقتها مخصصة لهذه الشريحة أساسا, و لكنها ليست الحقيقة كاملة.
صحيح أن أول عمل لماريا كان مع هاته الفئة من الأطفال, فسرعان ما اكتشفت أن الطريقة الأمثل لتطويرهم هي تعليمية و ليست طبية, وحين بدأت طريقتها, التي كانت في الأول مبسطة, تعطي نتائج مبهرة مع هذه الفئة, بدأت تتساءل عن السبب الذي يبقي نتائج الأطفال العاديين متوسطة.
و من هنا, و مبكرا في مسيرتها, إتجهت نحو الإهتمام بالأطفال السويين العاديين لتلاحظ ما يتميز به كل سن و ما هو احتياجه النفسي الفكري, و لتضع منهاجا يسمح لكل طفل بتفجير طاقاته الكامنة و شغفه الفطري للتعلم دون كوابح خارجية.
كانت ماريا دقيقة في ملاحظتها لكل حركات الطفل و انفعالاته و انجداباته لما يحيط به و هذا ما مكنها من التعرف على احتياجه في كل مرحلة و كيفية تجاوبه مع هذا الإحتياج, فحاولت أن تقدم له في كل مرحلة ما يساعده على الوصول إلى أقصى إشباع, مما يسمح لدماغه و قدراته الفكرية بالتوسع دون التعرض لكوابح خارجية.
تعتبر ماريا مونتسوري أن الطريقة التقليدية للتعليم تضع في المركز الملقن و ليس الطفل, فهو الذي يملي و يفرض ما يجب القيام به و ما على الطفل إلا التنفيذ. لم تعد تقتنع بهذه الكيفية التلقينية بعدما تعرفت على إمكانيات الطفل اللامحدودة, و كانت تنادي بتبني منهجية يكون فيها هذا الأخير هو مركز عملية التعليم, و ينعم فيها بمساحة من الحرية تمكنه من إشباع تعطشه المعرفي حسب احتياجه اللحظي. و لهذا قامت بإنشاء سلسلة من المدارس في العديد من الولايات ثم الدول.
“ما يجب علينا تغييره بالنسبة للطفل يمكن أن يختصر في نقطتين : طريقة اهتمام البالغ به و المحيط الذي نوفره له” ماريا مونتسوري ـ الدليل العملي
سنرى في ما يلي لماذا تم اختصار الموضوع في هاتين النقطتين.
كيف يتم عمل العقل عند الطفل قبل الست سنوات ؟
تقول و تكرر شيئا أمام الطفل دون وعي منك, أو تقومون بشيء ما معا بضع مرات, و يمر على هذا وقت طويل, و تظن أنه نسي الأمر أو ربما تنساه أنت بنفسك, فيفاجئك ذات صباح بأن يكلمك عن الأمر أو يعاود القيام بنفس الشيء. أو ربما تندهش في بعض الأحيان من سرعته في إتقان أمر ما كنت تظن أنه يفوق قدرته و ذلك فقط بملاحظته لما يحدث مرة تلو أخرى.
لاحظت ماريا أن الأطفال في بداية عمرهم و حتى سن السادسة لديهم ذكاء من نوع خاص و طريقة مختلفة في التعلم, فكيف ذلك ؟ دعني أخبرك
الطفل لا يتعلم بواسطة بذل مجهودات و إرادة شخصية, فهو لا يبذل أي مجهود تماما, ولا يعمل بواسطة الرجوع لذاكرته مثل الكبار, و إنما لديه حساسية نفسية داخلية تجاه جميع التجارب و الأحداث و الأشياء التي تحيط به,تجعله يتشربه و يمتصه بكل سهولة, و هو ما تسميه ماريا مونتيسوري بالإمتصاص أو العقل الماص, أو الذكاء الماص, (كل حسب ترجمته لتعبير ال absorbing mind).
يتمثل هذا الذكاء في اندفاع فطري نحو الحياة و نحو الدخول في تجارب متتالية دون انقطاع لتطوير القدرات, وهو يمكنه أيضا من معرفة ما هو جيد بالنسبة له و بالنسبة لاحتياجه و لطبعه هو و ميوله الشخصي و أيضا لإيقاعه التطوري.
الطفل في هذه المرحلة لا يتعلم و يطور دماغه بطريقة مسطحة و إنما بملاحظته للتجارب و القيام بها خاصة, ثم تكرارها عدة مرات, هكذا يستوعب بواسطة أحاسيسه كل أبعاد التجربة و يكتسب منها مهارات داخلية, فإن قام بالنشاط مرة واحدة قد تمحى هاته المهارة لكن إن تم تكرارها عدة مرات فإنها تمتص كليا و تحفر.
يكون هذا الذكاء الاستيعابي أو العقل الماص في البداية و حتى السن الثالثة يتم بدون وعي من الطفل, فهو يخزن دون قصد كل ما يتلقاه من محيطه, و المثال الأوضح على ذلك هو تعلمه للغة محيطه, فهو يخزنها كليا بدون إدراك و لا بذل أدنى مجهود فكري, فيبدأ فجأة حوالي السنتين في إخراج كل تم امتصاصه من كلام.
و ابتداءا من السنة الثالثة يصبح الأمر يتم بوعي من الطفل, فيبدأ في تعزيز ما تم اكتسابه خلال المرحلة الأولى, و السعي في الدخول في تجارب أخرى حسب ما يمليه السن و حساسيته النفسية, لكن دائما عملية التنمية و التعلم تتم بواسطة قدرة امتصاص كبيرة و دون مجهود.
هذا الامتصاص والسلاسة في الاستيعاب تؤثر أيضا في تكوين جوانب من شخصيته المستقبلية, فالطفل الذي ينشأ في جو هادئ يكون غالبا شخصا مرتاحا هادئا, و الذي يتعرض كثيرا للصراخ أو التعنيف في مراحله فإنه غالبا يمتص أيضا هذا الطبع و يعيد نفس المسار دون وعي منه, بل و أحيانا يجد المرء نفسه يعيد نفس الكلام الذي كان يقال له من طرف محيطه بنفس التعبير دون قصد منه, و لا يفهم لم !
هل سبق و سمعت بالفترات الحساسة ؟
من خلال المبدأ السابق تتولد خلال نفس هذا الحيز العمري فترات عالية التردد تطلق عليها ماريا مونتيسوري اسم الفترات الحساسة, و هي تمس مجموعة من الجوانب.
هذه الفترات مهمة لأنها فسحة زمنية إن تم استغلالها, فإن الطفل يتمكن من بناء المهارة المعنية بكل سهولة و انسيابية, فقد سبق و قلنا أن الأمر في هذا العمر لا يتطلب أي مجهود. أما إن فاتته هذه الفترة فإن الأمر يتطلب منه فيما بعد مجهودا كبيرا .
في هذا الوقت يتحرك الطفل لإشباع احتياج و حساسية داخلية تكون ملحة جدا في فترة محدودة, فيبدأ في التوجه نحو نشاطات تساعده على تغذية هذا الاحتياج. إن تم منعه من ذلك أو عدم توفر ظروف مناسبة, قد يلجأ للدخول في نوبات بكاء و اعتراضات غير مفهومة نترجمها عامة و غالبا بدلال زائد أو محاولات للتحكم في الشخص البالغ.
تقول ماريا أن هذه الفترات الحساسة تهم النظام, الحركة, اللغة أو القاموس اللغوي, تهذيب الحسي, التطور الاجتماعي, و العمل على الأشياء الصغيرة و مجالات أخرى. فإذا لاحظنا اهتماما زائدا بأمر ما فلنحاول مساعدته للمضي أكثر في نشاطاته و نقترح عليه أعمال أخرى مشابهة تحفزه و تساعده أكتر على إشباع حساسيته نحوه.
و خاصة لا نفرط في منع و كبح أي أمر يقدمون عليه لأسباب ليست فعلا وجيهة, كأن يكون خطرا عليهم, مع تقديم بديل آخرغير مؤدي.
ماذا عن أهمية المحيط ؟
حين أتكلم عن المحيط فإني أقصد المكان الذي يقضي فيه الطفل وقته, سواء المنزل أو الحضانة أو غيرها.
حسب منهجية مونتسوري المكان له أهمية قصوى, فحين يكون مناسبا فهو يمكن الأطفال من بلوغ كل ما ذكرناه سابقا, و نكون بذلك قد احترمنا احتياجاته الفطرية في النمو و تطوير مهاراته و استقلاليته. لا تقلق هذا ليس بلغز, سأشرح أكثر..
لا يمكن للطفل أن يبقى بدون حراك, يحتاج أن يكون حرا في المكان المتواجد فيه حتى يستطيع الاستجابة لنداءاته الداخلية, لذلك فإن التواجد في مكان لا يحتوي على الكثير من العوائق, مهيئ لتمكينه من القيام بنشاطاته بكل أريحية و عفوية, مهم حتى ينطلق في كل تجاربه.
و ذلك أولا بإزالة كل الأغراض الهشة و القابلة للكسر و التي تشكل خطرا عليه من متناول يده, فليس هو الذي يجب عليه تجنب مسها هذا يتعارض مع طبيعته.
ثم الحفاظ قدر الإمكان على نظام و ترتيب واحد حتى يستطيع الطفل أن يكون معالم في المكان مما يحسسه بالأمان النفسي
و من المهم أن تكون أغراض الطفل في متناول يده و مرتبة بطريقة تمكنه من رؤيتها بوضوح و تناولها بسهولة, كملابسه و لعبه و كتبه…
ثم أمور أخرى تساعده على القيام بالأعمال بنفسه و تعزيز استقلاليته, كإمكانية وصوله للصنبور لغسل يديه وحده…
خلاصة
حاولت أن أضع أصبعي و أعرفك بنقاط من بين تلك التي تمثل محور و مركز هذا المبدأ التعليمي, لأني أعلم أنك إن اطلعت عليها و استحضرتها دائما فإنك ستجد تفسيرا لعدة أمور تحصل في يوميات ابنك و سوف تتحسن طريقة تجاوبك معه , و ستعرف فيما بعد حتى كيف تختار الأنشطة المختلفة المقترحة في العديد من المواقع و الكتب حسب الاهتمام الملاحظ عند الطفل, و لن تحس بعد الآن بالإحباط إن لم يلقي اهتماما بعمل أو لعبة تقترحها عليه أو إن قام باختراع طريقة مختلفة للتعامل معها, فقد صرت تعرف السبب الآن.