عندما تصبح يومياتنا صعبة و متوترة بسبب عناد الطفل, نبدأ نحس أن المسار متعب و منهك, يتساءل الوالدان : كيف يطلبون مني أن أكون والدا هادئا إيجابيا ؟ أنا أتمنى أن أكون كذلك لكن مع طفل عنيد لا يسمع الكلام أبدا, لا يفعل إلا ما يملي عليه دماغه كأنه يتقصد إغضابي, أنهاه عشرات المرات و لا ينتهي أبدا, صراخه يصل آخر الشارع إذا لم نحقق ما يريد, يطفح الكيل !
معك حق إنه لمن الأمور المرهقة أن نعيش وسط هذه الأجواء المتوترة مع أعز من لدينا, فلذات أكبادنا, و لكي نعرف كيف نتعامل مع طفل ينظر إلينا بملء العين و يقوم بما يغضبنا و يزيد فوقه إبتسامة مستفزة, يلزمنا أن نطلع على مجموعة من الأشياء التي تحدث خلف الستار, خلف السلوك الظاهر.
رافقني في هذا المقال لنتكلم عن هذا و أكثر
إن الأسباب التي تجعل الطفل على براءته و نيته الصافية يعاند و يرفض و يعصى في طبعه, كثيرة و من غير الممكن اختزالها في جانب واحد أو إثنين, بل الأمر يتعلق بالكثير من العوامل و الأحداث المترابطة, التي تتراكم عنده, ربما منذ السنوات الأولى أو خلال فترة ما.
ولهذا فإنه لا يوجد حل واحد مباشر لكل الحالات. أقول هذا لأنه من خلال الإستشارات أرى أن الآباء يتوقعون أنهم ما إن يخبروني بعنوان المشكلة الذي هو العناد أو إبني لا يسمع الكلام أبدا, فإنني سوف أعرف مباشرة المشكل الذي يعاني منه الطفل و أعطي الحل السحري. الأمر ليس على هذه الشاكلة و الطفل أروع من أن نستبسطه لهذه الدرجة.
و لكي أزيدك ما هو أصعب تقبلا, فإن عناد الطفل, ما عدا الحالات المتعلقة بطبيعة المرحلة العمرية, هي ردة فعل عادية لما يعيشه مع محيطيه و مع الأشخاص البالغين.
و بالتالي فإن الإصلاح لا يكون أبدا موجها للطفل, بل للبالغ الذي يكون هو الوالدين أو المعلمين غالبا.
حسنا أطلت عليك في هذه المقدمة 🙂 لكن كان ذلك لغاية في نفس يعقوب, و هي أن أخبرك أنني في هذه اللائحة جمعت ثمانية أسباب الأكثر شيوعا في معاملاتنا و التي تولد العناد عند الطفل و تجعل طباعه مستعصية.
و لكنها تبقى غير حصرية
عناد الأطفال و العلاقة العمودية :
نعم أنت الأب و أنت الأم، لن يسلبك أحد ذلك، لكن أتعلم ؟ لا أحد يحب أن يتعامل مع شخص يستعلي عليه على الدوام، لا يشركه في شيء و لا يهتم لوجهة نظره، لرغبته و لا ما يحس به .
نظام العلاقة العمودية قد يصلح في الجيش أو الإصلاحية، لكنه أبدا لا يصلح في التربية، العلاقة العمودية تولد الخوف ثم العبث في غياب صاحب الأمر أو الثورة مباشرة.
و لذا فإن الطفل داخل العلاقة العمودية يلعب اللعبة مضطرا، في جو من غياب التفهم له، و عدم فهمه لأسباب القرارات و الأوامر الصادرة من الآباء، فإنه غالبا يلجأ للعناد و عدم التعاون، حيث يرى الآباء أنفسهم عندها مضطرين لإستعمال العنف بدعوى أنه هو من يدفعهم لذلك.
إنها حلقة منهكة للطرفين، الوالدين و الطفل، فكل واحد منهما يلجأ للتصعيد في موقفه من أجل الحد مما يشكو منه في الوقت الذي هو حقيقة يزيد من الأزمة.
أعرف مخاوف الآباء بل و أحس بها فأنا أيضا أم, و من موقعي لا بد لي أن أحافظ على حقي كولي الأمر في إصدار قرارات و أوامر حتى و إن لم يوافق عليها أبنائي و لم ترق لرغباتهم, و هذا حق طبيعي و مشروع بل و ضروري. فأين الخلل يا ترى ؟
الخلل هو حينما يكون هذا هو طابع العلاقة العام, فإنني حين لا أستعمل بطاقتي هذه إلا عندما يتطلب الأمر مني ذلك, فذلك لن يكون دافعا يجعل من العناد و التصعيد طبعا ملازما لإبني, أما حينما يكون ذلك هو نهجي العام فإني أحرق بطاقتي تلك للأسف. و أحتاج لأكثر منها من أجل إنقاذ المواقف : أحتاج للعنف.
ما الحل المقترح ؟
ليس بسر، إنه واضح كما توقعته : علاقة أفقية.
و في الحقيقة لا أحتاج أن أشرح لك كيف تكون العلاقة الأفقية، تستطيع أن تعرف في كل موقف يحدث هل كان تصرفك صادرا من كرسي منصبك أم أن الحدث دار بينكم كما لو أنكم فريق، أليس كذلك ؟
و مع ذلك أذكرك أن العلاقة داخل الفريق، تكون مبنية على ما يلي :
ما علاقة طلب الاهتمام بالعناد ؟
إنها تبدو من أغرب الأمور أن يقوم الطفل بسلوكيات مزعجة و أن يعاندنا على الدوام بدافع أن يكون محط أنظارنا و اهتمامنا، منطقيا، نتوقع أنه سيكون مطيعا و ممتثلا للأوامر إذا أراد أن يحظى بالإهتمام.
فعلا هناك نوع من الأطفال يلعبون دور الولد المهذب اللطيف فقط لأنهم يشعرون أننا نحب هذا النوع لكنهم ليسوا كذلك على الطبيعة، و هذا موضوع آخر قد أتطرق له مرة لاحقة.
أما الشائع فهو أن يفتعل الطفل المشاكل لكي يجذب الاهتمام أو بتعبير أدق حتى يحس بالأهمية و يعبر عن هذا الإحتياج.
فإذا وجدت أن ابنك يعاند و يتقصد أن يقوم بما تنهاه عنه, ثم ما إن يتلقى اهتماما خاصا يتوقف عن السلوك ليعيده فيما بعد أو يقوم بغيره, ثم يتوقف عند الاهتمام به أو خدمته و هكذا في حلقة مفرغة .. فاعلم أنه لا يشعر بأهميته عند الآخرين إلا عندما يهتمون به, أما غير ذلك فهو يظن أنه ليس مهما و لا محبوبا.
قد تقول في نفسك لكنني أحاول أن أمنحه الاهتمام اللازم بل و من الآباء من يقول لي على العكس أنا أهتم بهذا الطفل أكثر من إخوته.
و هنا مربط الفرس ! فهذا لا يزيد الطين إلا بلة و لا يزيد إعتقاده إلا رسوخا.
هذا الطفل, لا يحتاج إلى اهتمام أكثر, هو فقط يعتقد ذلك, هو يحتاج إلى :
ـ أن تقضي معه وقتا خاصا نوعيا لكن على أن يكون محدودا و معروفا
ـ أن لا يحضى باهتمام زائد, و أن يكون الاهتمام الموجه لجميع الإخوة بنفس القدر و الشكل
ـ توجيه إهتمامه لشيء آخر يشغل وقته و يكون مفيدا له حيث يحس أنه ينجز و يكسب من ثقته بنفسه
ـ وضع نظام يومي واضح له, الفوضى و العشوائية ستجعله مشتتا
ـ أن نعامله باحترام
ـ أن نشركه في إيجاد الحلول
ـ الكثير من التغافل عن سلوكياته من طرفنا و التركيز على الدوافع
الأمر المباشر هو صديق العناد الحميم
حتى و أنت في عملك, المأجور عليه, لا تستطيع أن تنجز بأريحية و هناك شخص قائم على رأسك طيلة اليوم يأمر و ينهى في كل صغيرة و كبيرة و لا يترك لك مساحة لتتصرف وتعمل على طريقتك و تأخذ بعض القرارات بنفسك. سوف يضيق صدرك و إما أنك ستغادر أو أنك على الأقل ستكره ذلك الشخص و لن تحترم أوامره.
إن الأوامر المباشرة تخلق في دماغ الإنسان استعدادا للمواجهة و التحدي و تجعل الجسم متوترا و على أهبة للمواجهة.
هذا الأمر منتشر جدا بين الأطفال، بحكم أننا بدون شعور نتمادى في الأوامر طيلة الوقت بل و نحاول تأطير كل صغيرة و كبيرة: قم نم كل لا تأكل إغسل إذهب للمرحاض إلعب هنا لا تأخذ لا تترك ……
إن ذلك بصراحة يتحول إلى أمر غير مريح و يجعل تعاون الطفل معنا أكثر صعوبة
بماذا يمكننا تعويض ذلك ؟
حاول التنويع في طرق الحوار خاصتك, و من تلك التي يمكنك أن تعتمدها :
ـ السؤال بدل الأمر (ما الذي سترجعه أولا من اللعب المتناثرة ؟)
ـ إعطاء خيارات محدودة (هل ستأكل الجزر أو البازلاء ؟)
ـ تشتيت الإنتباه
تأثير أعين الحاضرين
الإنسان عامة هو مخلوق إجتماعي, و صورته أمام الآخرين مهمة جدا و ذلك منذ الطفولة. و إذا كان احترام الطفل مهم في كل الأحوال فإنه يصبح أكثر أهمية في حضور الناس.
تنتج محاولة كسب المعارك أمام الآخرين و إثبات سلطتك على الطفل كسرا له و لكرامته خاصة إن كانت مصحوبة بإهانة أو عنف.
من الطبيعي أن تجد أن الطفل يعاندك أكثر أمام الناس, هو يتصرف حسب اعتقاد ما أو ليظهر بصورة ما, حاول أن تتحلى بالصبر و أن تتجنب الأوامر المباشرة خاصة إن كنت تتوقع رفضه لها.
من الأدوات التي تساعدك في مثل هذه المواقف :
ـ الاتفاق على قوانين محددة قبل الاجتماع بالآخرين
ـ الاتفاق القبلي على نتائج الإخلال بالقوانين
ـ الاتفاق على كلمة سر للتنبيه يفهم الطفل معناها دون الحاضرين.
ـ عند حدوث أي أزمة خذ الطفل بعيدا عن الحاضرين و انتظره حتى يهدأ لتتكلم معه
ـ إذا أحسست بالإضطراب قرر ما يمكنك أن تقوم به أنت لإنقاذ الموقف لا الطفل
ـ لا تهتم بنظرة الآخرين قدر اهتمامك بحفظ كرامة إبنك.
كيف يمكن للإقتداء أن يكرس العناد
قد ندخل نحن أيضا ككبار في دوامة من العناد دون وعي بالذات، قد نجد أنفسنا نقول لا دون سبب و دون تفكير و أحيانا فقط لتجنيب أنفسنا بعض المتاعب.
لا تكن للطفل قدوة في العناد ثم تتدمر، حاول أن تتحلى بقدر من المرونة و التفاوض و التحاور.
إسأل نفسك عند كل رفض هل لديك سبب وجيه ؟ هل يستحق هذا السبب الرفض ؟ أليس هناك مجال للسماح, للتنازل أو التغاضي ؟ في النهاية التربية لا تمر بلا متاعب.
لا تقل لكل شيء لا إن كنت لا ترغب في سماع لا كثيرا.
تمرد العناد في غياب لغة الحزم
حين يسمع الآباء التربية الإيجابية و التعامل دون عقوبات, يتخيلون مباشرة أن عليهم قضاء الساعات في محاولات بائسة لإقناع الأطفال بما يتوجب عليهم القيام به, و كثيرا ما أقرأ في المجموعات الخاصة بالأمهات انتقادات لهذا النوع من التربية.
غير أن الذي يغيب عنهن هو أن هذه تربية سلبية و ليست إيجابية. و حكمهن للأسف نابع من عدم علم بالشيء. و أنا لا ألومهن فقد كنت مثلهن قبل أن أتعلم ماهية التربية الإيجابية. لهذا كان دافعي لأنشئ هذا الموقع و أكتب هذه المقالات و حتى من خلال التدريبات و الورشات و الاستشارات، هو تعريف الأمهات و الآباء بالفرق بين التربية بالاحترام و التربية بالتساهل أو التسلط.
التساهل و محاولة إقناع و إرضاء الأطفال و الحرص على راحة مشاعرهم لا ينتج لنا إلا أطفالا متمردين, لا حدود لهم و لا سبيل لإرضائهم, لذلك لا تتوقع منهم إلا أن يكونوا أطفلا عنيدين.
و بعد أن تفشل هذه الطريقة يرى الآباء أن لا وسيلة تنفع مع الطفل العنيد إلا العقاب و فرض السلطة فينتقلون للكفة المقابلة.
غير أن الرفق و إمساك العصى من الوسط لا يتطلب لا هذا و لا ذاك. حافظ على حضور شخصيتك الحازمة مع مزجها بحس أبوتك الحاني لتكون النتيجة إعتمادك لنبرة حازمة يعرف من خلالها الطفل أنك تحبه على كل حال و أنك أخذت قرارا سببه مفهوم و أنك لا تظلمه من خلاله حتى و إن كان هذا القرار لا يسعده, ليس عليك أن تحميه من مشاعر الضيق أو الحزن أو الغضب, دعه يتعامل معها مع احتوائه إن احتاج ذلك.
بعض الجمل التي تجمع الحزم بالإحترام للتعامل مع العناد :
أنا أحبك لكن لن أقبل هذا السلوك أبدا
أعرف أنك مستمتع باللعبة لكن الوقت قد تأخر و نحن مضطرين لأن نتوقف
أفهم أنك تحب السيارات لكنها ليست سيارتك و صاحبها يريدها
بناء العلاقة
كما ذكرت بداية عامة يكون العناد وليد علاقة متوترة, و نوعية العلاقة بين الطفل و الأبوين أو المعلم هي الأرض المؤسسة لكل شيء, فمن أجل التعامل مع معضلة العناد يجب التأكد من طبيعة العلاقة بين الطرفين ابتداءا, إذا كانت آمنة و صحية, فلا يلزم بعد ذلك إلا تعلم بعض الأدوات للتعامل مع مواقف العناد المختلفة و التدرب عليها, أما إذا كانت مضطربة فإن العناد سيكون نتيجةبديهية, و كل الطرق لن تنفع فوق الأرضية الهشة للعلاقة, وحتى إن نفعت مرة أو مرتين فسرعان ما سيحدث الإنهيار.
لذا احرص على أن تقيم علاقتك بابنك, كيف هي ؟ هل يحس بالأمان داخلها؟ هل يحظى بالدفء الكافي ؟ هل تقضون بعض الوقت الجيد سوية ؟ هل هناك إنصات و تشجيع ؟ …
اختلاف التعامل مع الإخوة
لقد أتبتت علوم النفس أن ترتيب الطفل داخل الأسرة له تأثير مهم على شخصيته, و منه على سلوكياته.
إن العدل بين الإخوة من ناحية المعاملة أمر ملح, لكن ليس باليسير, و بحكم أن الكبير كبير و أن الصغير صغير, نجد أنفسنا أحيانا ننصر أحدهم على حساب الآخر, و هذا الفرق يخلق عند الطفل نوعا من العناد الشديد حتى و إن كان بشكل غير مباشر, أي في أمور ترى أنها لا علاقة لها بإخوته.
كيف للطفل أن لا يعاند حين تحمله مسؤولية السلوك الغير مرغوب لأخيه
كيف لا يعاند حين تحمله مسؤولية صراخ أخيه
كيف لا يعاندك عندما توبخه بسبب غضب أخيه
كيف لا يعاندك حين تحرمه من شيء حرصا على أخيه
كيف لا يعاند و أنت تمدح أخاه المهذب على حسابه
…
إنه سيعاند و أكثر, سوف يتحول إلى الطفل المثير للشغب, و إلى مزعج إخوته و إلى طفل عنيد بامتياز.
أما إذا كان الأخ مازال مولودا جديدا و هذا التغيير الطارئ في المنزل هو الذي إبنك ليصبح عنيدا فإني أطمئنك الأمر عادي و هي مسألة وقت و ستمر كما أنك ستجد في مقال غيرة الطفل من المولود الجديد مجموعة من النصائح المهمة
خلاصة
و أخيرا أقول لك، إن أول نقطة قد تحل الكثير من مشاكلك، و قد تكون متضمنة لجل النقط الباقية، و تذكر أن في بداية التغيير، الديمقراطية الجديدة ستولد في بدايتها فوضى قد تربكك.
خذ وقتك في التدريب, من الطبيعي أن تخطئ آلاف المرات, المهم هو أن تتجاوز ذلك و تستمر في المحاولة و التقدم, لا يمكنك أن تستقيل من مهنة الأبوة لذلك لا تستقيل من تطوير مهاراتك في ممارستها.